الأربعاء، 18 مارس 2020





ناصر الهاملي Sony Cyber-Shot W830

المشي الطويل أو ال "Hiking" رياضة ممتعة جداً ولها انشراح في الصدر وتفكّر في العقل، فضلاً على كونها رياضة صحية لها فوائد لا تحصى، وقد كتب عنها الكثير ممن مارسوها، وتم تأليف كتب ومقالات ودراسات جامعية، وقد وفقني الله الى كثير من رحلات المشي والتخييم بمعية أصدقاء لي أو بمفردي.  وقد تمر السنوات وأنسى تفاصيل تلك الرحلات، ولا أتذكر إلا المجمل منها، فأحس بالأسف على ما فاتني من تلك التفاصيل، فقررت أن أدون هذه الرحلة لعلي آتي بما له مردود من المنفعة لي ولمن أرادوا ممارسة المشي بشكل عام وفي جورجيا بشكل خاص.


إنطلقنا من مطار دبي في أكتوبر 2019 نحن الثلاثة متجهين الى جورجيا، مطار تبليسي. وإلى برجومي أقلتنا  من المطار سيارة أجرة




و في الطريق الى برجومي اضطررنا للوقوف لشراء شرائح للهواتف النقالة، وبعدها..






 زيارة متجر خاص بالتخييم لشراء وقود للطبخ لزملائي ( كما هو معلوم لم نستطع إحضار وقودنا معنا في عبر المطارات)، وهنا أحسست بسهولة استخدام الموقد الذي لدي والذي يسمى موقد كحول " Alcohol Burner".




موقد الكحول:

موقد الكحول يعتمد على الأسيتون او ما يسمى بالبروبانون، والجميل ان هذا النوع من الوقود متوفر بكثرة في المحلات والجمعيات التجارية لدخوله في استخدامات منزلية كثيرة، فلم أجد صعوبة في إيجاد كحول للموقد الذي لدي.






وصلنا ليلاً لمنطقة برجومي والمبيت في نُزل "بيت ضيافة" وليس فندقا، وكان مكوناً من ثلاثة أسرة وحمام ومطبخ مشترك،،  وكان نظيفاً جداً وبما يقدر بمبلغ (75) درهماً إماراتياً.





في الصباح الباكر تم تجهيز حقائب الظهر، والانطلاق الى محمية "ليكاني"، والذي يلاحظ موقع "برجومي" في الخارطة، سيلاحظ اننا اخترنا أجمل الأماكن من حيث الخضار! وبعيداً عن المناطق الثلجية في الشمال..  لكن كما توقعنا من شهر أكتوبر، فقد أحسسنا بالبرد في أقدامنا في الليلة الأولى، وتمنيت لو كان لدي "ثيرمل" واقي حراري للقدمين، والخطأ الذي ارتكبناه هو الإعتماد على أحوال الطقس المسجلة في الشبكة من دون احتساب درجات الحرارة للمرتفعات والتي - في أغلب الأحيان - لا تدخل أرقامها ضمن الدرجات المسجلة لأجل المدن.


عبدالعزيز الهاجري Samsung Note10


أخترنا طريق المشي رقم (1) في "ليكاني" وكان أسهلها، وقد تم اختياري لأكون أمير هذه الرحلة (لا مانع لدى أصدقائي من اختيار كبير البدن مع قليل من الخبرة التي لا تحتاج إلا لعقل صغير!!).  






قمنا في بداية الأمر بزيارة المكتب الخاص بالمحمية "ليكاني"، حيث تقابلنا مع الفريق الإداري والذي بدوره يقوم بالتعريف عن المحمية ومخاطرها وكيفية توخي سبل السلامة، وما هي الطرق المتاحة للمشي وأماكن التخييم...  وقد رأينا خريطة كبيرة تغطي سطح طاولة طعام لست أشخاص!  وقد اشترينا الخريطة والتذاكر -رمزية الثمن- لدخول المحمية.  

ملاحظة: عند دخولك المكتب احرص على معرفة دورك للدخول في غرفة الإنتظار..  لأننا انتظرنا طويلاً وليس هنالك أرقام انتظار، وواجهنا زوار جدد يتقدموننا للمقابلة من دون استئذان!  عادة غير موفقة. 









بداية المشي:
كان الطريق يمشي بمحاذات النهر لأقل من 5 كيلو متر، وبعدها بدأنا بصعود الجبل صباحاً، والذي يبلغ ارتفاعه ألف متر، ولقد أحسست بثقل وزن الحقيبة والبالغة 16 كجم،  وخاصة وأن قدمي اليسرى ما زالت تحت العلاج (التهاب في العصب أسفل القدم)، لكن كنت أقاوم الألم حتى قررت أن أتداوى بحبة بروفين، والذي -بفضل الله- كان له أثر كبير في استمراري بالمشي، فأنصح دائماً بالتزود من هذه الأدوية والتي تخص الآلام الشائعة... صداع، ألم أسنان، آلام الظهر.  






علامات الطريق دائماً مصبوغة على الأشجار، ولافته للأنظار، وذات الوان دالة على عنوان طريقك الذي اخترته على الخريطة، وهذا النظام قمة في الترتيب، وعمل ييستحق شكر القائمين عليه.





عند مفترق الطريق (طريق النهر وطريق المنحدر الجبلي) حرصنا أن نتزود بالماء استعداداً للصعود، فكما أخبرونا مسبقاً في مكتب المحمية، فمن هذه النقطة يجب ان نحرص على الاسترشاد في كمية الماء حتى القمة بسبب انعدامه بين هاتين النقطتين.












هنالك نقاط جميلة للغابة، حيث تستوي فيها الأرض لتكون مكاناً مناسباً للتخييم واشعال النار.  وقد استمتعنا كثيراً بجمال النار في وسط غابة مظلمة، ورائحة الأشجار الزكية المفعمة ببرودة الجو المنعشة.   






تعلمت بعدها كيف علينا دراسة أماكن هذه النقاط والمسافات التي تتوسطها، فقد تباطأ لدينا السير الحثيث عند صعودنا، ووجدنا أنفسنا متأخرين عن الوصول الى النقطة المرجوة، فالجبل لا يصلح للتخييم في أي مكان، فالطريق المخصص للمشي لا يتسع إلا لشخصين يمشيان، وعلى طرفي الممشى إنحدارين حادّين، وإذا أدركك الليل فالطريق معتم بحيث يصعب عليك بعد ذلك التمييز وإيجاد بقعة مستوية لنصب خيمتك.




الطريق صعود مستمر، و 10% استواء محدود جداً، والمشي الحثيث مطلوب، وعند الصعود الحاد يتطلب عليك السير بمنهج إقفال الركبة، فقط ركز على إقفال ركبتك، ولا تفكر في الخطوات السريعة في هذه الحالة (الصعود الحاد).  لا أخفيكم بأن الطبيعة لها جمالها الذي لا يجب الإعراض عنها بانشغالك في إصابة الهدف، استمتع بالطبيعة وتوقف عن الكلام قدر المستطاع لتعطي جسدك الأكسجين الكافي..  اصغ الى أصوات الطيور والحيوانات وحفيف الأشجار، وهي فرصة كبيرة للتفكر في آلاء الله.





عبدالعزيز الهاجري Samsung Note10



عبدالعزيز الهاجري Samsung Note10



وصلنا الى قمة الجبل الأولى، والتقينا بفرق كشفية وأفراد، والكل كان في قمة الأدب والذوق.   المنظر من الارتفاع كان جميلاً!  وخاصةً وقت العصر عند ميول أشعة الشمس، عندها تستمتع بتغاير الوان النباتات وهي تبتعد الى الأفق.
كانت وجهتنا الى كوخ في قمة الجبل على ارتفاع 1000م من القاعدة. 





الوصول الى الكوخ كان مشوقاً جداً، فكلما صعدنا هضبة أو تجاوزنا غابات كثيفة كلما حدثتنا خواطرنا بأن الكوخ خلف هذه الهضبة أو بعد هذه الغابة! وهكذا حتى رأينا سقف الكوخ وبعدها لم ينتظر واحد منا الآخر، وكل أخذ يهرع بمفرده مستكشفاً.  وصلنا في منتصف الظهيرة، وكان الكوخ مشرفاً على منظر جميل في مساحة واسعة خضراء تحيط بها الأشجار من 3 جهات ما عدا الجهة المطلة على شرف الجبل.  ومقاعد الواح خشبية محاطة بمكان النار وأخشاب جاهزة للإشعال والإستمتاع بالنار ومشاهدة غروب الشمس الساحر!  هل تتذكرون الأفراد الذين حدثتكم عنهم، والذين التقوا بنا؟ هم الذين اجتهدوا في تنظيف وترتيب المكان لكي يستمتع من يأتي بعدهم!  يالها من عادة جميلة...  تنشر الايثار والترابط بين أفراد المجتمع.








الكوخ يحوي 12 سرير ومدفئة، ولو تلاحظون هنالك بعض المواد الغذائية بمحاذات الباب والتي تركها الكشافة ليستخدمها الآخرون باعتبار أنها فائضة عن حاجتهم، وأيضاً هنا... عادة جميلة!







عند وصولنا قمنا بتحضير الطعام، وتزودنا بالماء في اسفل الهضبة التي نحن فيها، حيث توضئنا وصلينا الظهر والعصر.  بالنسبة للطعام فقد تعودت حمل ما خف منه، فالطعام الذي لدي جميعه مجفف، ولا يحتاج إلا الى ماء مغلي، ولقد استفدت من الخبز، وهو الشيئ الوحيد الطازج الذي لدي، ويملأ المعدة بشكل عجيب!  فمثلاً، كانت الوجبة الواحدة من العدس المجفف تزن 230 غ، لكن مع استخدام الخبز وجدت انها كثيرة جداً وتكفي لإطعام شخصين، فخففت من وزن الطعام على حساب توفر الخبز لرحلاتي بعد ذلك.



عبدالعزيز الهاجري Samsung Note10 Plus


أشعلنا النار عند حلول النهار، واستمتعنا بوقتنا بالضحك والقصص الفكاهية ومنها ما مررنا به من مواقف فكاهية.  وأحسسنا بالتعب قريب من منتصف الليل، حيث خلدنا الى النوم، وقررت المبيت في الكوخ على خلاف أصدقائي، الذين باتوا خارج الكوخ في خيامهم، 




لكن بعد مضي منتصف الليل إنضم الي واحد منهم "طحنون" بسبب البرد القارص ليظل الآخر "عبدالعزيز" خارج الكوخ.  لم يتأثر عبد العزيز بالبرد وذلك بسبب ارتدائه تبطين حراري "ثيرمل" وهو أحد الفوائد والدروس التي تعلمتها لإتقاء برودة هذه المناطق الشمالية.







في صباح اليوم التالي توجهنا الى طريق العودة، ولكن بدلاً من الإنحدار من طريق "1"، وبعد المشورة، اخترنا العودة من انحدار طريق رقم "6" والذي نجهله ولا نعرف بالضبط مدى الصعوبة التي يحملها! 
ومن هنالك بدأنا بالمشي الطويل ولكن ليس انحداراً، وإنما مشياً على طول قمة الجبل والتي تشبه الجدار!  وبعد كيلوات قليلة انحدرنا إنحداراً حاداً لدرجة اننا توقناه يميل 45 درجة من صعوبة الإنحدار، فنحن محملين بالأوزان واسلوب النزول كان بدون إقفال الركبة، وكنا نمشي وركبنا مثنية طوال الوقت ما عدا الفرص القليلة التي نحتاجها الى الراحة عن طريق الاصطدام بالأشجار والتمسك بها للإستعداد للمنحدر الذي يليه، وهكذا استمرينا من منتصف النهار الى الساعة الخامسة عصراً...  وقد انهكنا النزول لعدم وجود استراحة تتوسط هذا المجرى، حيث كنا نتوقع انه من الممكن صنع بعض الطعام لتقويتنا على السير لكن هيهات!  فالجبل ينحدر الى وادي عميق لا تصل اليهأشعة الشمس!  فكنا نحس بالهواء ينزل علينا بشكل كثيف من أعماق الغابة السوداء.


عبدالعزيز الهاجري Samsung Note10 Plus
وبعد نزولنا من الوادي ظهرنا على اشعة الشمس الصفراء وكان المنظر وكأنه مكافئة من بعد تعب، حينها صنعنا وجبة الطعام وصلينا الظهر والعصر وحمدنا الله، وسرنا بمحاذات النهر ومن ثم طريق يتوسط حديقة طبيعية وفي آخر المسار وجدنا موقفاً لسيارات الأجرة عند بوابة المحمية، فأقلنا الى النزل حيث قضينا بعد ذلك وقتاً ممتعاً في مدينة برجومي حيث كان برنامجنا بعد ذلك مليئاً بالمتعة لما تحويه هذه المدينة الصغيرة من متاجر يدوية تستحق الزيارة.

طحنون العكبري  Samsung Not10


وهذا باختصار رحلة المشي والتخييم في جورجيا الجميلة والتي أحسسنا -بعد عودتنا الى الديار- بنشاط مفعم بالحيوية، وقصص ومواقف حملناها في ذاكرتنا لنرويها للأهل والأصدقاء.   لقد شفاني الله من ألم الأعصاب الذي كان في قدمي اليسرى، والذي حاولت علاجه في أكثر من مستشفى لكن دون جدوى،، فالحمد لله على كل حال.

المشي رياضة واستكشاف، والذي يميزها كبح عجلة الحياة السريعة، والاستمتاع بتفاصيلها، فنحن بحاجة الى تأمل الطبيعة بحرية أكثر، وبإدراك أوسع،  وبعيداً عن أشغال الدنيا المكتضة والتي تشغل حيزاً كبيراً في عقولنا وخواطرنا.  نعم صحيح انني استمتعت بالمشي والتخييم في بيئة صحراوية شحيحة بالماء ومنذ سنوات عديدة، لكن الغابات الخضراء لها طابع آخر وجمال فريد لا أستطيع حصره في جمل وسطور قليلة.